Thursday, Mar 28th, 2024 - 12:15:15

Article

Primary tabs

أيّة سياسة ثقافية للبنان؟ بقلم الدكتور فيصل طالب

هل هناك سياسة ثقافية في لبنان؟ وهل ثمّة سُلّم لأولوياتها؟ بل ما هي مرتبة الشأن الثقافي في سُلّم أولويات السياسة العامة للبلد؟

إنّ السياسة الثقافية المفترضة في بلد ديمقراطي لا شمولي، كلبنان، لا تصنعها الحكومة، بل التكامل البنّاء بين الجهات الرسمية المختصّة وقوى المجتمع الحيّة، وهي ليست سوى رؤية شاملة للعمل في مجالات الفكر والأدب والفن والتراث تستهدف تحسين الوعي بقيمة الثقافة ودورها ومردودها، ورفع منسوب تأثيرها في مجريات الحياة العامة، في سياق تمكين المجتمع من بناء سور الأمن الثقافي الذي يكفل حماية إنجازاته وعدم تعريضها للاختراق والفساد والضياع، ويصون مسارات الفعل الجماعي والتفاعل الوطني القائم على ترسيخ مبادئ الحوار ومفاهيم التضامن والتكافل، وحلّ النزاعات بالطرق الديمقراطية، وتوحيد الخطاب الثقافي البيني، والانتقال بالمجتمع من ثقافة الأزمات المستمرة إلى ثقافة الإنجازات المستمرة، وإحلال ثقافة الإنتاج مكان ثقافة الاستهلاك؛ وذلك على قاعدة الشعار الذي أطلقتُهُ في وزارة الثقافة: "بالتربية نبني وبالثقافة نحمي البناء"، وتحت سقف تغيير التراتبية التقليدية التي تقدّم الاهتمام بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الشؤون الثقافية وشجونها!

إنّ السياسة الثقافية في لبنان لا يجوز لها أن تنطلق إلّا من الاعتبار التاريخي لنشوء الوطن الصغير بمساحته، الكبير برسالته في العالمين، رسالة الحوار والتسامح والعيش الإنساني والتنوّع الفكري، رسالة الفرادة والتمايز، رسالة الردّ الحضاري على كل الكيانات العنصرية التي تلغي الآخرين ولا تعترف بوجودهم. وعلى الرغم من حيوية المجتمع الثقافي اللبناني فإنّ هذه الرسالة لا تكتمل إِلَّا باسترداد الموقع والدور اللذين كانا للبنان حتى أواسط القرن الماضي، فنعيده إلى الشرق والعالم مكتبةً وجامعةً ومطبعةً ومنبراً ومنتدياتٍ أدبية وفكرية وعلمية وفنيّة، ونقطة استقطاب وبؤرة إشعاع ثقافيتين، وعلامة متألقة في فضاء التواصل الإنساني، ومختبراً حقيقياً للحوار الحضاري، بجهد جماعي استثنائي، في إطار خطّة استراتيجية برؤية وطنية شاملة تستهدف جعل الحركة الثقافية قاطرة لمجمل الحراك الوطني العام، وتظهيراً متقدماً لدرجة نموّه وارتقائه، وشرفة نطلّ منها على آفاق المستقبل؛ وهي تقوم على عدّة ركائز، منها:

اعتبار الحق الثقافي من المسلّمات الوطنية التي تفرض على الدولة، من بين واجبات عديدة تجسّد هذا الحق، إفادة مواطنيها من تقديم الخدمات الثقافية لهم، في الطريق الى تحقيق مبدأ ديمقراطية الثقافة، على هدي مقولة طه حسين: "إنّ الثقافة حقّ لكل مواطن كالماء والهواء".
إعادة النظر بالتشريعات القانونية والتنظيمية التي ترعى الشأن الثقافي، بما يتوافق ومتطلبات التطوير الدائم للحياة الثقافية، كي تفي بالحاجة إلى حسن إدارة الموارد الثقافية، وتيسير حصول المواطنين على الخدمات الثقافية المتنوّعة، ودعم المعنيين بالشأن الثقافي، أفراداً وجماعات، وتمكينهم من أداء دورهم بأفضل الشروط.
تضافر جهود الفاعليات المجتمعية بوجوهها الرسمية والمدنية والأهلية في هذا السبيل، وانتظامها في أُطر قادرة على تحقيق الأهداف التي قد يكون من بينها إنشاء المجلس الأعلى للثقافة الذي يضطلع عادةً بمهمات رسم السياسة الثقافية، والتنسيق والتنظيم والتعاون والتشبيك والتكامل بين الجهود الحكومية والسلطات المحلية وهيئات المجتمع وقواه الفاعلة؛ وذلك على قاعدة مأسسة العلاقة بين شركاء الفعل الثقافي.
رفع موازنة وزارة الثقافة إلى الحدود التي يستحقها لبنان الدور والرسالة؛ إذ كيف يمكن لأرقام هذه الموازنة الضعيفة جداً (أقل من ١٪) أن تفي بمتطلبات المشهد الثقافي الذي يليق بلبنان وحضوره المتميّز في المنطقة والعالم؟!
تعزيز البنى الثقافية التحتية (مسارح ودورعرض وصالات للأنشطة الثقافية المختلفة…).
تمكين المجتمع، بمساراته التربوية والثقافية، من استيعاب التحوّلات الضخمة التي أفرزتها الإنجازات العلمية والتكنولوجية، وتعزيز حضورها في دائرة التمثّل والتطبيق، وتظهيرها في المشهد الثقافي المنشود.
مواجهة أشكال الضحالة والخفّة والعبث بمزيد من الأعمال الثقافية المدعومة من الدولة وهيئات المجتمع الفاعلة، ووضعها في دائرة الضوء والاهتمام.
تعزيز الصناعات الثقافية في مجالات الانتاج الأدبي والموسيقي والسينمائي…، وكذلك في نطاق الحرف اليدوية والتقليدية.
توظيف عناصر التراث المادي وغير المادي في نطاق التنمية المستدامة وتعزيز الانتماء الوطني.
إيلاء ثقافة قطاع الأطفال والشباب الاهتمام الذي يستحقونه، وأوّل المهمات في هذا السبيل توفير كل المعطيات التربوية والثقافية، بما في ذلك تعزيز الكتابة الاحترافية للأطفال، لجعل هؤلاء يقبلون على القراءة في سنّ مبكرة، واستثمار المكتبات المدرسية والعامة في هذا السبيل.
تعزيز القدرات البشرية العاملة في قطاع الثقافة، وبناء كادرات فنيّة متخصصة في مختلف نواحي العمل الثقافي؛ فضلاً عن ملء الشواغر الهائلة في ملاكات وزارة الثقافة، وبخاصة بعد أن صدرت المراسيم التنظيمية الخاصة بها في خريف العام 2014، وذلك وفاقاً للتوصيف الوظيفي الخاص بكل وظيفة ملحوظة في هذه الملاكات.
وضع خطط تنفيذية لتسويق الإنتاج الثقافي، على قاعدة تجويده ، ودراسة الاهتمامات والحاجات الثقافية للجمهورالمستهدف، وإجراء ما يلزم لجعل المواقع الالكترونية ووسائل الإعلام تولي الاهتمام الجدّي بجدوى تسويق هذا الإنتاج إعلامياً وترويجه.
إن ولوج هذا المسار لن يتمّ بغير تجسير العلاقة العضوية والتفاعلية بين التربية والثقافة من جهة، وبين الاجتماع والاقتصاد والصناعة والسياحة والإعلام من جهة ثانية؛ وذلك في مسار تنمية الإنسان اللبناني عمودياً وأفقياً.

لقد أدركت دول عديدة من العالم الثالث أن الرهان على الثقافة رابح دائماً، لأنّها "القوّة الناعمة" التي تشدّ أزر المجتمع وتصلّب عوده، وأنّ التنمية المستدامة التي تقتصر على الإنماء الاقتصادي أو الإصلاح السياسي الفوقي هي تنمية مبتورة أو عقيمة، ما دامت لا تتغذّى من معين سياقها الثقافي والإنساني الذي هو المفتاح السحري والدواء الناجع والحل الأمثل لكل أمراض التخلّف، كما يقول المفكّر الدكتور جابر عصفور.

(فيصل طالب-المدير العام السابق لوزارة الثقافة)

Back to Top